الكراوي
يرفض الأحكام المسبقة حول الشباب... حقل مركب ومسؤولية مشتركة
رافضا الأحكام المسبقة والتعميمات الجاهزة حول موضوع فئة الشباب، يرى الدكتور إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، أن حقل الشباب يتسم بطابع معقد ومركب، مبرزا أن الأمر لا يتعلق بفئة شابة واحدة ومنسجمة، بل بفئات متعددة تتطور في سياقات اجتماعية وأسرية ومجالية شديدة الاختلاف.
ودعا
الكراوي، في تقديم وسمه بعنوان “شباب العالم اليوم حقل ذو طابع مركب” لكتابه
الجديد، إلى الحرص على تجنب إلقاء عبء تدبير مسألة الشباب على عاتق فاعل واحد، أي
الدولة أو الأسرة أو المدرسة، على اعتبار أن مجال الطفولة والشباب هو مجال
المسؤولية الجماعية والمشتركة بامتياز.
وهذا
نص المقال:
إن
دراسة الإشكاليات والقضايا التي يثيرها موضوع الشباب تكشف عن وجود العديد من
الأحكام المسبقة حول هذه الفئة، كما تُفْصِحُ عن تنامي نوع من الخَلْط فيما يتعلق
بالسياسات العمومية الخاصة بالشباب. وغالبا ما تنصب هذه الأحكام المسبقة على عزوف
الشباب عن العمل السياسي، وضعف ثقتهم في المؤسسات، لاسيما الدولة والأحزاب
السياسية، ووضعهم البنيات المجتمعية التي تضطلع بتنظيم الحياة في المجتمع مثل
الأسرة والمدرسة موضع التساؤل، وكذا رفضهم المشاركة في تدبير الشأن العام، وميلهم
إلى الاحتجاج والتمرد والعنف.
وإذا
كانت هذه التوصيفات تعكس إلى حد بعيد جانبا من الواقع المعيش، إلا أنه لا يمكن
البتة تعميمها وجعلها ملازمة لكل الشباب على وجه الإطلاق. ذلك أن مجال الشباب هو
مجال يتسم بطابعه المعقد والمركب، حيث إن الملاحظة التجريبية لهذا الحقل تبرز أننا
لسنا حيال “فئة شابة” واحدة منسجمة الخصائص، وإنما نحن أمام “فئات شابة”، أي شباب
متعددين يتطورون في سياقات اجتماعية وأسرية ومجالية شديدة الاختلاف. وهي سياقات
تحدد الخصائص المميزة للشباب وتملي عليهم خيارات وسلوكيات معينة وتفرض عليهم واقعا
اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ومؤسساتيا.
هكذا
نجد أن المجتمع الواحد يَضُمُّ فئاتٍ متعددة ومتنوعة من الشباب:
–
شباب اختاروا المبادرة الحرة وريادة الأعمال كسبيل
للاندماج الذاتي في الحياة العملية، وبالتالي كوسيلة للمساهمة في المجهود الوطني
الرامي إلى خلق الثروة؛
–
شباب اختاروا العمل المدني في إطار منظمات غير حكومية
منبثقة عن المجتمع المدني، بغية إعطاء معنى لانخراطهم المواطن وتثمينه، من خلال
المشاركة في مبادرات للتضامن الاجتماعي، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية البيئة
و/أو مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة (الأشخاص في وضعية إعاقة، الأطفال الصغار المُهمَلون،
النساء ربَّات الأسر في وضعية هشة، الأشخاص المسنون، المهاجرون في أوضاع غير
نظامية)؛
–
شباب اختاروا الانضمام إلى حزب سياسي أو منظمة نقابية أو
مهنية كطريقة لتجسيد انخراطهم في
حياة المجتمع وممارسة سلطة التأثير في مستقبلا لمؤسسات التي ينتمون إليها وإسماع صوتهم
في مسلسل تشكيل المشروع المجتمعي
الذي يطمحون إليه؛
–
فئة أخرى من الشباب اختارت الإبداع بشتى مجالاته المتنوعة،
سواء في ميادين الثقافة،
الفن، العلوم، الموسيقى، فنون الطبخ، الأزياء أو الرياضة، كشكل من أشكال التعبير عن مواهبها
وعن انتمائها إلى المجتمع، إذ وجدت في الإبداع الإطار الملائم للتطور والتفتح
والارتقاء الذاتي، ومن ثم الإطار الأمثل للمساهمة في تعزيز الرأسمال الوطني غير المادي.
على
مستوى آخر، هناك شباب اختاروا الممارسة الدينية والروحانية، بحثا عن إجابات لتساؤلاتهم
الوجودية، وقلقهم ومخاوفهم، وآمالهم.
وأخيراً،
هناك الشباب المقصيين
الذين يعيشون على هامش المجتمع بسبب الفقر المدقع، والبطالة المزمنة، والإعاقة،
ومختلف أشكال الهشاشة. وتشكل هذه الفئة أكبر نسبة من الشباب. إذ يوجدون في جميع
المناطق، سواء الحضرية أو شبه الحضرية أو القروية، وينتمون إلى الكثير من العائلات
في جميع أنحاء العالم. وتتولد عن الوضعية التي يعيشها هؤلاء الشباب جملة من
المواقف والسلوكيات، على رأسه استهلاك المخدرات غير التقليدية، والاتجار في
الممنوعات بكل أنواعها وأشكال العنف المتطرفة.
غير
أن ثمة تحولات جديدة وبالغة الأهمية باتت تؤثر على جميع هذه الفئات من الشباب. ذلك
أنهم أضحوا يتطورون في عالم منفتح ومعولم بشكل متزايد، ويعيشون في ظل سياقات وطنية
تتسم بتنامي وَقْعِ الثورة الرقمية. ويوفر هذا الواقع الجديد لشباب اليوم إمكانيات
هائلة للتعبير الحر عن مشاكلهم وبواعث قلقهم، ولكن أيضاً عن احتياجاتهم وانتظاراتهم
وتطلعاتهم. وبفضل الثورة الرقمية أصبحت لديهم إمكانيات أكبر للانتظام في إطار
شبكات، والعمل التعاوني مع نظرائهم. كما عززت هذه التكنولوجيا استقلاليتهم إزاء
جميع المؤسسات التي تنظم الحياة في المجتمع، وعلى رأسها المدرسة والأسرة ومؤسسات
الدولة والشبكات الاجتماعية التقليدية.
وهو
الأمر الذي يجعل منهم فاعلين قائمي الذات في المجتمع، يتمتعون بقوة فردية وجماعية
حقيقية ومُؤثرة، لكنها قد تكون إما قوة بناءة ومعززة للإبداع أو مُدَمِّرَة.
لكن،
وعلى الرغم من الطابع المركب لإشكاليات وقضايا الشباب، وبغض النظر عن الوزن
الديمغرافي لكل فئة من فئات الشباب سالفة الذكر، فمن المؤكد أنه عندما يتم إرساء
سياسات عمومية في مجال الشباب تتسم بالجدية والمصداقية ويقوم على إعمالها مسؤولون
جِدِّيُّون ومؤَهَّلون ويَتَحَلَّونَ بالنزاهة والالتزام بتحقيق الصالح العام، فإن
الشباب ينخرطون في تلك السياسات ويتملكونها، بل يصبحون فاعلين رئيسيين في تنفيذها.
لذلك، ينبغي على الدول والمجتمعات الانكباب بشكل جدي على وضع أنسب السبل وأكثرها
ملاءمة لتحقيق إدماج هذه الفئات من الشباب في مجتمعاتها.
غير
أنه، لكي تكون سبل الإدماج ناجعة، يتعين الانطلاق بشكل قبلي من فكرة أساسية مفادها
أننا اليوم إزاء جيل جديد من الشباب، واعٍ ومُتَطَلَّب، وهو نتاج ديناميات مجتمعية
وطنية تندرج في سياق عالمي يتميز بالتوسع المتسارع لفضاءات الحرية، والاستقلالية
في التعبير عن هذه الحرية، وتطور الأنترنت، والولوج إلى عدد كبير من القنوات
الفضائية، وكذا بروز وتطور نوع جديد من المطالب، مثل الحق في العدالة والكرامة
والحماية الاجتماعية الشاملة والعمل اللائق والثقافة والترفيه والعيش في بيئة
سليمة والمشاركة السياسية.
ولذلك
ينبغي أن تعمل المجتمعات المعاصرة على التكيف مع هذا الوضع الجديد، كما أن الدول
مدعوة إلى وضع سياسات عمومية مُوَجَّهَةٍ للشباب تكون مواكبة ومستجيبة للجيل
الجديد من المطالب المعبر عنها من لدن هذه الفئات الجديدة من الشباب. وبعبارة
أخرى، يجب على الدول والمجتمعات أن تغير جذريا من الطرق والآليات التي تعتمدها في
مجال إدماج الشباب، من خلال وضع استراتيجيات خاصة بالشباب ينفذها فاعلون ذوو
مصداقية ويمتلكون الكفاءة اللازمة، وأن ينكبوا على تنفيذ مبادرات وتدابير واضحة
ومحددة بشكل أفضل، وبرامج تستهدف المستفيدين بشكل أدق، مع توفير تمويلات مهمة
وكافية. وينبغي أن تكون الأهداف المسطرة موضوع تشاور وتقاسم بين الأطراف المعنية،
وأن تجعل الشباب في صلب اهتماماتها، حتى يجدوا ضالتهم فيها وينخرطوا في إنجاحها.
لذلك
يجب أن يكون العرض الذي تقدمه السياسات العمومية في هذا المضمار متنوعا ومختلفا ومتناسبا
حسب فئات الشباب وكذا خصوصيات مختلف المجالات الترابية. ومن ثم يجب توظيف جميع
أشكال الإدماج الممكنة، كالإدماج من خلال الجانب الاقتصادي، والإدماج عن طريق
التكوين والثقافة والفنون والعمل الاجتماعي والرياضة ومهن التنمية المستدامة. كما
يتعين أن يتسم هذا العرض بالبعد المندمج بدل القطاعي، والطابع الترابي بدل المركزي.
ونظرا
لكون مسألة الشباب تتسم بطابعها العرضاني، فإنه من المستحسن، بل من الضروري، الحرص
على تجنب إلقاء عبء تدبيرها على عاتق فاعل واحد، أي الدولة أو الأسرة أو المدرسة.
ذلك أن مجال الطفولة والشباب هو مجال المسؤولية الجماعية والمشتركة بامتياز، حيث
تتفاعل فيه أدوار الدولة والأسرة والمدرسة والمقاولة والحزب السياسي والمنظمة
النقابية والفاعلين في المجتمع المدني والمثقفين ووسائل الإعلام والجماعات
الترابية. لذلك فإن هذه المقاربة الجماعية والتعددية هي الكفيلة لوحدها بتقديم
إجابات مستدامة للأسباب العميقة لمشاكل الشباب.
يسعى
الكتاب إلى تحديد هذه الإشكاليات في ضوء الديناميات التي أفرزتها الثورات
والاحتجاجات، التي تهز جميع مناطق العالم، أبطالها شباب يبحث عن العدالة والكرامة
وتكافؤ الفرص والحق في المشاركة والعيش الأفضل.
كما
يحاول دراسة المفارقات الناجمة عن المشاكل التي يعيشها جزء مهم من شباب العالم،
والمتعلقة بالتعليم والتكوين والبطالة والأوضاع الصحية والفقر والحماية الاجتماعية
والارتقاء الاجتماعي والهشاشة والإقصاء والفجوة الرقمية والإدماج الاجتماعي
والاقتصادي والمؤسساتي والديني، بغية تسليط الضوء على ظروف عيشهم استنادا إلى أحدث
المعطيات المتوفرة.
وأخيرًا،
يحاول الكتاب إبراز التحديات التي يواجهها الشباب، معتمدا في ذلك على تقديم قراءة
ممكنة للأسباب العميقة الكامنة وراء شعورهم بالاستياء وبعدم الرضى عن أوضاعهم،
ومقدما مقترحات من أجل وضع سياسات عمومية مواكبة للواقع الجديد لشباب اليوم.